في شهر يونيو من سنة 1853 كان هينريش بارث في السنة الثالثة من رحلته الاستكشافية ذائعة الصيت، التي دامت خمس سنوات إلى وسط إفريقيا. وكان قد عبر الصحراء، ورسم خريطة لبحيرة تشاد، ونجى من نوبات الملاريا، وفقد رفيقي رحلته جراء المرض. ورغم كل هذا كانت ما تزال لديه الرغبة في السفر عبر البر باتجاه تمبكتو البعيدة. فقد انطلق من "سوكوتو" متجها إلى الغرب خلال موسم الأمطار، مجتازا أراضي "لم تطأها أقدام الأوربيين"، وتوقف بحثا عن الحماية عند بلدة غاندو. وهناك عرضت عليه مخطوطة عن تاريخ المنطقة ستغير نظرة الأوربيين إلى تاريخ غرب إفريقيا.
وتعرف هذه الوثيقة باسم "تاريخ السودان" وقد كتبها عبد الرحمان السعدي، أحد علماء مدينة تمبكتو، في القرن السابع عشر. وتتألف من ثمانية وثلاثين فصلا اعتمد بعضها على مؤلفات تاريخية سابقة، وبعضها الآخر من معاينات المؤرخ نفسه ومن مقابلاته. وكان نحوها العربي يعاني بعض الوهن، ما جعل المؤرخين اللاحقين يعتقدون أن لغة السونغاي كانت اللغة الأولى للسعدي. ويذكر أسلوبها بالحكايات الشعبية لـ"الأخَوان غريم" أو قصص ألف ليلة وليلة.
وقد أدرك بارث أن للكتاب أهمية كبيرة، فكتب عنه: "لم أتردد في الجزم بأن هذا المؤلف التاريخي سيكون من أعظم الإضافات إلى التاريخ البشري، في مجال كان شبه مجهول في السابق." وقد تفرغ عدة أيام لهذ الكتاب، ونسخ منها ما استطاع، وأرسل لاحقا ملاحظاته إلى ألمانيا حيث ترجمت منها مقتطفات ونشرت سنة 1855.
يبدأ تاريخ السودان بقائمة لملوك للسونغاي، وسرد للأسطورة المؤسسة لإمبراطورتيهم. وقد عرفت أول سلالة حاكمة لهم باسم "الزووة"، وأول من حكم منهم هو "زوا الأيمن" الذي أعلِن ملكا بعد ما قتل سمكة لها خاتم في أنفها، كان الناس يتخذونها، مخطئين، آلهة لهم. وقد ألحِق السونغاي بعد ذلك بإمبراطورية مالي التي خلفت إمبراطورية غانا القديمة في المنطقة التي تعرف بالسودان الغربي، لكن الأمير الشجاع علي كون أنقذ السونغاي من هذا المصير. ومع تراجع قوة إمبراطورية مالي في القرن الخامس عشر، استولى السونغاي على أراضيها وبدئوا يطلقون لقب "الآسكيا" على ملوكهم. وكان أعظم هؤلاء الملوك الآسكيا الحاج محمد الذي وسع فتوحات سلفه، ليوطد دولة السونغاي كأعظم إمبراطورية في تاريخ غرب إفريقيا تمتد من نهر السنغال في الغرب، وحتى مدينة أغاديز في الشرق.
كانت غاو عاصمة إمبراطورية السونغاي، لكن حاضرتهم العلمية والدينية كانت مدينة تمبكتو. وقد أنشأ الطوارق هذه المدينة مطلع القرن الثاني عشر، ووفدت إليها بعد ذلك مباشرة أعداد غفيرة من السكان تنتمي لأجناس أخرى من المناطق المجاورة، فأصبحت المدينة محط رحال القوافل القادمة من كل البلدان، والعلماء والزهاد من كل الأعراق. وفي سنة 1325 نصب ملك مالي موسى الأول ممثلا له بتمبكتو، وأمر بتشييد قصر ملكي، ومنارة لمسجد جنغير بير. لكن العصر الذهبي لما يسميه السعدي "المدينة التي ما دنستها عبادة أوثان ولا سُجد على أديمها قط لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين، ومألف الأولياء والزاهدين، وملتقى الفلك والسيار" سيتحقق تحت حكم الملوك الأسكيين. وقد امتد حكمهم قرنا من الزمن، حتى سنة 1591، حين أرسل سلطان مراكش جيشا عبَر الصحراء ليستوليَ على مناطق سيطرتهم.
لقد استُخدم اكتشاف كتاب تاريخ السودان في نهاية القرن التاسع عشر لإعادة الوهْج إلى أسطورة المدينة المذهبة التي انتشرت عبر أوربا، طيلة أربعمائة وخمسين سنة، حتى سنة 1850، تاريخ عودة ريني كاييه، أول مستكشف يعود على قيد الحياة من هذه المدينة. وقد وصفها بأنها "مجرد مجموعة المنازل ذات المنظر السيء مبنية من الطين. وفي سنة 1911 اكتشفت أجزاء مما بدا أنه ثاني وثيقة تاريخية مهمة عن مدينة تمبكتو. وقد ترجمها المستشرقان الفرنسيان أوكتاف هوداس وموريس ديلافوس، ونشرت بعنوان تاريخ الفتاش. وفي القرن العشرين ظهر إجماع كامل على هذا التاريخ، يتأسس على هذه الوثائق، وعلى قائمة الملوك التي تسرد، فقد اتفق عموم المؤرخون على أن ما حوته من تفاصيل كان حقيقيا.
لكن نظرة العالم إلى المنطقة تغيرت مرة أخرى سنة 20033. وكان باولو فيرناندو دو مورايس فارياس، الطبيب البرازيلي الذي أقام في غرب إفريقيا، وعمل هناك طيلة سنوات، وراء هذا التغير. فقد فتنت فارياس الكتاباتُ المنقوشة على الأضرحة في شمال مالي، والتي تعود إلى القرون الوسطى. وقد أدرك أن هذه النقوش تعود إلى عصور سابقة على المؤلفيْن المذكورين بمئات السنين. لقد أعيد اكتشاف هذه النقوش في بدايات القرن العشرين، واستقبلتها الأوساط الأكاديمية بحماس بالغ، ثم بحالة من الشك الذي أفقدها القدرة على التعامل معها، فلم تعرف كيف تربط بينها مع المصنفين التاريخيين. ولم يكن هناك من تطابق بين أسماء الملوك وتاريخ حكمهم.
وكما يوضح فارياس في كتابه نقوش عربية وسيطة من جمهورية مالي، فإن النقوش تظهر في الحقيقة أن الوقائع التاريخية الواردة في المصنفين التاريخيين منتحلة في عدة أماكن منها. فقد اجتثت سلالات حاكمة بأكملها من قائمة الملوك –تضمنت سلسلة ملكية من ستة نساء حاكمات على الأقل- بينما استعيرت أساطير أخرى من ثقافات مختلفة لملء فراغات في الوثيقة. فلماذا إذا سعى المؤرخون إلى خلق تاريخ مصطنع جديد؟ يرى فارياس أن الوثائق التاريخية كانت مشروعا سياسيا أعد في أعقاب السيطرة المغربية على المنطقة سنة 1591. فقد انتزع الغزو المغربي من الحكام الأسكيين كل الصلاحيات، وحدَّ من امتيازات الطبقة المتعلمة من أهل الحضر، بينما كان مقاولو السلطة الجدد في المنطقة يصارعون لاكتساب الشرعية. وكان المؤرخون التمبكتيون يحاولون، عبر صياغة تاريخ السونغاي في سردية واحدة محكمة، التوفيق بين مراكز السلطة المتنافرة هذه، وتعزيز قدرتها على المضي قدما، كنخبة موحدة ومتماسكة. فجاء تاريخ المدينة مليئا بالإضافات، وغير دقيق. وكانت كتابة التاريخ أكثر إبداعا من أي كتابات أخرى أنتجتها المدينة.
ويخلص فارياس إلى القول إنه "علينا ألا نعتمد كثيرا على ما تقدمه المصنفات التاريخية من إعادة بناء للماضي البعيد، لكن علينا أن نحترم مهارات هؤلاء المؤرخين ككتبة ووكلاء إيديولوجيين.
فحتى بدايات القرن الحادي والعشرين، ما يزال تاريخ تمبكتو وشعوب النيجر الأوسط عرضة لمراجعات شاملة. وهو ما يمكننا من استخلاص أنه من الصعب أن نكون رأيا جازما بشأن تاريخ أكثر مدينة حيكت حولها الأساطير، لأن ثقافتها تظل أكثر تطورا مما نعتقد.
تعليقات
إرسال تعليق