حول أصل كلمة "تَبّاتو" التي تعني "البيضاني" بالبولارية/ بقلم: عبد الله سيره با، كاتب صحفي/ترجمة: محمد عبد الله ولد البوصيري.
"كل معرفة تاريخية مَثارٌ للشك، لأنها قمينة بإيثار بعض الجماعات على حساب أخرى".
إن الأسف على اختفاء كثير من المواضيع في ثنايا الانترنت، وملاحظةَ امرأةٍ أحملُ لها كثيرا من المودة والإعجاب والعرفان بالجميل، أقنعاني بضرورة نشر نقاش شاركت فيه سنة 2014.
فكثير من النقاشات، مثل هذا، سريعة التبخر، يطغى عليها صخَبُ الحوار على الشبكة العنكبوتية ويضِلُّ صداها الطريق في خبايا العالم الافتراضي.
موضوع هذا النقاش هو أصل كلمة "تباتو" البولارية التي تعني "البيضاني". وكان إطاره أحد المنتديات الالكترونية المتخصصة بالبولارية والثقافة الفلانية. وقد فاجأتني فيه إحدى الفرضيات بطابعها المعرفي الحاد وبما لها من تداعيات إيديولوجية. وهي صادرة عن أحد ابرز منعشي هذا المنتدى (المشار إلى اسمه بحرفي م. س.). ويتلخص الحوار في المنتدى المذكور في جدل دار بيني وبين م. س. وتمحور على ثلاثة محاور أقَدّمها لأسباب منهجية في جزئين :
الجزء الأول : المُورْ (البيضان) والغزية (هجمات النهب)
م. س:
كلمة "تباتو" مشتقة من عبارة "سَفَارْ" الولفية التي تعني النار. وهذه التسمية ربما كانت دون شك مرتبطة بممارسات النهب الكثيرة التي كان "البيضان" يرتكبونها ضد سكان "فوتا"، حين كانوا يشعلون النار في المساكن وفي السهول المزروعة.
أما "الفوتاكوبي" فيمثِّلُ "البيضان" في تصورهم شعبا ذا ارتباط بالنار "سَفَارْ" ويُعرّفونه بها. وهكذا تكون عبارة "سَفاَلْ بي" (بمعنى الذين يشعلون) استلهاما لمعنى "الغزية" التي هي تقنية حربية تقوم على النهب والإتلاف والفساد.
ويستخدم "الولوف" أسلوب التسمية نفسه "للبيضان" حيث يطلقون عليهم تسمية "نار" التي تعني النار كذلك.
وقد جرى في مادة اشتقاق هذه الكلمة نوع من إبدال الحروف بين التاء (ت) والسين (س) في بداية الكلمة والباء (ب) والفاء (ف) في نهايتها، بحيث جاءت "تب + آت + ووُ" دالة على المفرد و"سَف + اَلْ + بي" دالة على الجمع.
أما الأصوات الموسيقية (آت) في كلمة "تب + آت + وُ" و (آل) في كلمة "سَف + اَلْ + بي" فهي ذات علاقة بالصوت (آر) في كلمة "سف + ار". وهي خاضعة لظاهرة الإبدال التي تعني إبدال حرف بحرف آخر، إذ قُلِب الراء فيها لاما أو تاء وهما صيغتان صرفيتان تشكلان (في البولارية ) علامتين للنسبة إلى الجنس.
وكما هو معروف فاللغة الولفية خلافا للبولارية لا تتوفر على علامات النسبة في وحداتها الاسمية. وذلك ما جعل الراء من كلمة "سف + ار" يبدل لامًا في كلمة "سَف + اَلْ + بي" مع إضافة "بي" التي هي علامة النسبة إلى جنس البشر في حال الجمع، كما يبدل الراء ذاته تاء في كلمة "تب + اَت + وُو" مع إضافة علامة "وُو" التي هي دالة على النسبة إلى جنس البشر في حال الإفراد.
ويخضع الإبدال لقواعد صوتية نطقية محددة تتّبِع ترتيبا في مخارج الحروف، وهي هنا حروف مخارجها لثوية أو عند مغارز الأسنان (الراء و التاء واللام). وتلك ظاهرة شائعة في اللغة البولارية.
من ع. س. ب. إلى س...
أنا أحترم المستوى العلمي لكاتب هذه السطور وأقدر كل التقدير معارفه اللسانية. لكنني لا بد أن أعترف أن تفسيراته اللغوية للصيغ الصرفية لكلمتي (تبّاتُو وسَفالْبي) تركت في نفسي بعض الشكوك وطرحت علي من الأسئلة أكثر مما أعطت من الإجابات :
يبدو لي أن م. س. نسِي (...) أنه قبل الانتماء إلى "الفوتاكوبي" كان السكان الذين سيشكلون فيما بعد عنصر "الهالبولار" قد تعايشوا ردْحًا من الزمان مع البربر ممنْ كانوا في مناطق الشمال والوسط من موريتانيا.
ومن العسير أن نفهم لماذا استخدم الفوتاكوبي عبارة (سفار) الولفية لتسمية "البيضان" وهم يطلقون على النار عبارتي "جينكول" و "إيت"، إلا إذا كانوا (أو كان من جاؤوا بعدهم من أهل "فوتا تورو") عرَفوا "البيضان" بواسطة الولوف (بهذه الدرجة وبعدما تميز هؤلاء في شكل مجموعة خاصة).
(....) ثم لماذا لجأ الفوتاكوبي إلى استخدام كلمة "سفار" الولفية الدالة على النار وقد رغب "الولوف" أنفسهم عنها فلم يستخدموها في تسمية "البيضان" بل سموهم باسم من كلام "البيضان" هو كلمة "نار". ومن جهة ثانية فالولفية حسب علمي تسمي النار "سافارا" وليس "سفارْ". وإذا كان ذلك كذلك فإنه يقوِّض ما قيل في » ظاهرة الإبدال التي تعني إبدال حرف بحرف آخر، إذْ قُلِب الراء فيها لاما أو تاء وهما صيغتان صرفيتان تشكلان (في البولارية ) علامتين للنسبة إلى الجنس « . كما أن الصوت "آ" في نهاية "سافرا" إذا لم يكن علامة للنسبة إلى الجنس، فبأي حال من الأحوال يمكن تفسير وجوده في نهاية الكلمة ؟ مع العلم أن القول بعدم توفر الولفية على علامات للنسبة مخالف لما يراه السيد انْيَـنْغْ الذي يقدم الشواهد على وجود هذه العلامات في اللغة الولفية، مثلا : "نيت كي" و"نيت ني" الدالّتان على الإنسان والناس؛ و "جي كين" حيث "جي" للمرأة؛ و"كيرْ كي" و"كيرْ يي" (المسكن، المساكن)؛ و"انضاو سي" (الطفل)؛ و"بوم بي" (الحبل)؛ و"ليف لي" و"ليف يي" (الشيء ، الأشياء). فإذا كانت هذه العلامات أقل عددا وأقل وظائف مما هي عليه في البولارية فلا يعني ذلك مطلقا أنها غير موجودة.
(...)
وإني لأخشى أن يكون ميْلُنا الطبيعي إلى التأويل الشخصي والاكتفاء به، دافعا إلى الجزم بما هو في أحسن الأحوال مجرد افتراض ضمن افتراضات كثيرة. ومهما حزّت في النفس آلام وفظائع النهب وحرق المزارع (لمن عاشوا تلك المعاناة في الماضي أو لمن يعيشونها في الحاضر بشكل مختلف)، فإن تاريخنا المشترك أكثر تعقيدا وأقل أحادية مما تعكسه تقاليدنا الشعبية وعلاقتنا المتعالمة.
والكلمات تكون أحيانا ناضبة المعاني التاريخية وتستحق النظر والتأمل الحذِر. فالتفسير اللساني لا يشي على الدوام بأصل الكلمات ولا بتطورها. وإن مسألة من هذا النوع لتتطلب غالبا الأخذ بآراء علماء الأجناس البشرية (الأنتربلوجيين)والمؤرخين وعلماء الآثار والفقهاء والعارفين بتقاليد الشعوب.
إن الأسف على اختفاء كثير من المواضيع في ثنايا الانترنت، وملاحظةَ امرأةٍ أحملُ لها كثيرا من المودة والإعجاب والعرفان بالجميل، أقنعاني بضرورة نشر نقاش شاركت فيه سنة 2014.
فكثير من النقاشات، مثل هذا، سريعة التبخر، يطغى عليها صخَبُ الحوار على الشبكة العنكبوتية ويضِلُّ صداها الطريق في خبايا العالم الافتراضي.
موضوع هذا النقاش هو أصل كلمة "تباتو" البولارية التي تعني "البيضاني". وكان إطاره أحد المنتديات الالكترونية المتخصصة بالبولارية والثقافة الفلانية. وقد فاجأتني فيه إحدى الفرضيات بطابعها المعرفي الحاد وبما لها من تداعيات إيديولوجية. وهي صادرة عن أحد ابرز منعشي هذا المنتدى (المشار إلى اسمه بحرفي م. س.). ويتلخص الحوار في المنتدى المذكور في جدل دار بيني وبين م. س. وتمحور على ثلاثة محاور أقَدّمها لأسباب منهجية في جزئين :
الجزء الأول : المُورْ (البيضان) والغزية (هجمات النهب)
م. س:
كلمة "تباتو" مشتقة من عبارة "سَفَارْ" الولفية التي تعني النار. وهذه التسمية ربما كانت دون شك مرتبطة بممارسات النهب الكثيرة التي كان "البيضان" يرتكبونها ضد سكان "فوتا"، حين كانوا يشعلون النار في المساكن وفي السهول المزروعة.
أما "الفوتاكوبي" فيمثِّلُ "البيضان" في تصورهم شعبا ذا ارتباط بالنار "سَفَارْ" ويُعرّفونه بها. وهكذا تكون عبارة "سَفاَلْ بي" (بمعنى الذين يشعلون) استلهاما لمعنى "الغزية" التي هي تقنية حربية تقوم على النهب والإتلاف والفساد.
ويستخدم "الولوف" أسلوب التسمية نفسه "للبيضان" حيث يطلقون عليهم تسمية "نار" التي تعني النار كذلك.
وقد جرى في مادة اشتقاق هذه الكلمة نوع من إبدال الحروف بين التاء (ت) والسين (س) في بداية الكلمة والباء (ب) والفاء (ف) في نهايتها، بحيث جاءت "تب + آت + ووُ" دالة على المفرد و"سَف + اَلْ + بي" دالة على الجمع.
أما الأصوات الموسيقية (آت) في كلمة "تب + آت + وُ" و (آل) في كلمة "سَف + اَلْ + بي" فهي ذات علاقة بالصوت (آر) في كلمة "سف + ار". وهي خاضعة لظاهرة الإبدال التي تعني إبدال حرف بحرف آخر، إذ قُلِب الراء فيها لاما أو تاء وهما صيغتان صرفيتان تشكلان (في البولارية ) علامتين للنسبة إلى الجنس.
وكما هو معروف فاللغة الولفية خلافا للبولارية لا تتوفر على علامات النسبة في وحداتها الاسمية. وذلك ما جعل الراء من كلمة "سف + ار" يبدل لامًا في كلمة "سَف + اَلْ + بي" مع إضافة "بي" التي هي علامة النسبة إلى جنس البشر في حال الجمع، كما يبدل الراء ذاته تاء في كلمة "تب + اَت + وُو" مع إضافة علامة "وُو" التي هي دالة على النسبة إلى جنس البشر في حال الإفراد.
ويخضع الإبدال لقواعد صوتية نطقية محددة تتّبِع ترتيبا في مخارج الحروف، وهي هنا حروف مخارجها لثوية أو عند مغارز الأسنان (الراء و التاء واللام). وتلك ظاهرة شائعة في اللغة البولارية.
من ع. س. ب. إلى س...
أنا أحترم المستوى العلمي لكاتب هذه السطور وأقدر كل التقدير معارفه اللسانية. لكنني لا بد أن أعترف أن تفسيراته اللغوية للصيغ الصرفية لكلمتي (تبّاتُو وسَفالْبي) تركت في نفسي بعض الشكوك وطرحت علي من الأسئلة أكثر مما أعطت من الإجابات :
يبدو لي أن م. س. نسِي (...) أنه قبل الانتماء إلى "الفوتاكوبي" كان السكان الذين سيشكلون فيما بعد عنصر "الهالبولار" قد تعايشوا ردْحًا من الزمان مع البربر ممنْ كانوا في مناطق الشمال والوسط من موريتانيا.
ومن العسير أن نفهم لماذا استخدم الفوتاكوبي عبارة (سفار) الولفية لتسمية "البيضان" وهم يطلقون على النار عبارتي "جينكول" و "إيت"، إلا إذا كانوا (أو كان من جاؤوا بعدهم من أهل "فوتا تورو") عرَفوا "البيضان" بواسطة الولوف (بهذه الدرجة وبعدما تميز هؤلاء في شكل مجموعة خاصة).
(....) ثم لماذا لجأ الفوتاكوبي إلى استخدام كلمة "سفار" الولفية الدالة على النار وقد رغب "الولوف" أنفسهم عنها فلم يستخدموها في تسمية "البيضان" بل سموهم باسم من كلام "البيضان" هو كلمة "نار". ومن جهة ثانية فالولفية حسب علمي تسمي النار "سافارا" وليس "سفارْ". وإذا كان ذلك كذلك فإنه يقوِّض ما قيل في » ظاهرة الإبدال التي تعني إبدال حرف بحرف آخر، إذْ قُلِب الراء فيها لاما أو تاء وهما صيغتان صرفيتان تشكلان (في البولارية ) علامتين للنسبة إلى الجنس « . كما أن الصوت "آ" في نهاية "سافرا" إذا لم يكن علامة للنسبة إلى الجنس، فبأي حال من الأحوال يمكن تفسير وجوده في نهاية الكلمة ؟ مع العلم أن القول بعدم توفر الولفية على علامات للنسبة مخالف لما يراه السيد انْيَـنْغْ الذي يقدم الشواهد على وجود هذه العلامات في اللغة الولفية، مثلا : "نيت كي" و"نيت ني" الدالّتان على الإنسان والناس؛ و "جي كين" حيث "جي" للمرأة؛ و"كيرْ كي" و"كيرْ يي" (المسكن، المساكن)؛ و"انضاو سي" (الطفل)؛ و"بوم بي" (الحبل)؛ و"ليف لي" و"ليف يي" (الشيء ، الأشياء). فإذا كانت هذه العلامات أقل عددا وأقل وظائف مما هي عليه في البولارية فلا يعني ذلك مطلقا أنها غير موجودة.
(...)
وإني لأخشى أن يكون ميْلُنا الطبيعي إلى التأويل الشخصي والاكتفاء به، دافعا إلى الجزم بما هو في أحسن الأحوال مجرد افتراض ضمن افتراضات كثيرة. ومهما حزّت في النفس آلام وفظائع النهب وحرق المزارع (لمن عاشوا تلك المعاناة في الماضي أو لمن يعيشونها في الحاضر بشكل مختلف)، فإن تاريخنا المشترك أكثر تعقيدا وأقل أحادية مما تعكسه تقاليدنا الشعبية وعلاقتنا المتعالمة.
والكلمات تكون أحيانا ناضبة المعاني التاريخية وتستحق النظر والتأمل الحذِر. فالتفسير اللساني لا يشي على الدوام بأصل الكلمات ولا بتطورها. وإن مسألة من هذا النوع لتتطلب غالبا الأخذ بآراء علماء الأجناس البشرية (الأنتربلوجيين)والمؤرخين وعلماء الآثار والفقهاء والعارفين بتقاليد الشعوب.
تعليقات
إرسال تعليق