الدكتور حماه الله ولد السالم : تعليقا على كتاب: "موريتانيا: الماضي المتحرك والمكان المؤثر.." للاستاذ أحمدو.
تعليقي على الكتاب مبتسر لثلاثة أسباب على الأقل:
ـ أول هو أن التعليق هنا يتم بناء على قراءة مختصرة للكتاب قدمتها الراية في العدد 104
ـ ثاني هو البون الشاسع بيني والمؤلف: تجربته السياسية الطويلة ورصيده الفكري الممتد.
ـ الانتماء المشترك لبلاد الحوض مما قد يدفع بي إلى المجاملة بدل المقاربة أو ينآى بي عن تلك فيوقعني في الأسوأ وهو عقوق الأخ الأكبر ..
لست أدري لماذا أوحى إلي عنوان الكتاب بنزعة جمالية: نسبة لجمال حمدان المفكر المصري الراحل، لاسيما فكرته الشهيرة حول عبقرية المكان. فإذا كان لمصر موقعها الحضاري والاستراتيجي الذي لا خلاف عليه، مع تركنا جانبا تأسيس حمدان للمركزية المصرية، فأي عبقرية للمكان الموريتاني وكيف، مهما صرفنا اللفظ إلى صيغ قريبة:
المكان المؤثر وما شابه، لأن المكان يؤثر في كل البقاع وقد قيل الجغرافيا تصنع التاريخ...كما إنني للوهلة الأولى أيضا، لم أستسغ القسم الأول من العنوان، الماضي المتحرك..[كذا؟]. ذلك إنه لا يوجد ماض واقف، بل إن حركية الأنساق ونحل العيش والاجتماع الإنساني هي صلب التاريخية. فالعنوان لا يوحي بالدقة المطلوبة، كما إنه يصادر على معطيات تؤسس لرؤية الكتاب التي أتلمس فيها ما أسميه ـمع احترامي لأخي أحمدوـ الفهم الشمولي للتاريخ. وأقصد بهذا المفهوم النظر الذي يلغي الاختلاف والتمايز، كما ينفي الجزئي لصالح الكلي بشمولية لا تخلو من عنف رمزي مبطن ردا على تفكير استئصالي آخر. وذلك بالرغم من أن الأستاذ أحمدو أبان في ما قرأته له من مقالات عن نظر صائب لقضايا شائكة فكريا وسياسيا ومجتمعيا و بنفس أصيل لا يخلو من صرامة نظرية ورصانة في العرض. لكنه في الكتاب موضع التعليق أعلن عن رؤى وأفكار قد لا يقره عليها كثيرون لاسيما من أهل الاختصاص في التاريخ الموريتاني ولست منهم.
يقال إن المفكر هو الذي يمكن أن يكتب على بياض وللباحثين الكبار أن يكتبوا ما شاؤوا ما التزموا الإحالة على الأصول والمظان في حدود لا تقيدهم عن التجديد والتجاوز. أما من هم دون ذلك فليس لهم إلا أن يحيلوا وبدقة وأمانة كل فكرة أو اقتباس أو معطى إلى صاحبه، كما ان عليهم ـ وبصورة مضاعفة ـ الالتزام بضوابط العرض وأصالة الإنجاز كما تتداول في الرائج من الأطر المدرسية جامعية كانت أم غير جامعية.
ولا أشك أن الأستاذ من هذا الفريق الأخير لأنه قطعا على دراية بأساليب البحث المعاصر و أدواته بدرجة تغنيه عن المدرسية وأدوائها، لكن ذلك لا يمنعه من الإحالة ولو عرضا إلى الأصول الموثوقة والدراسات المعاصرة الرصينة، سيما بخصوص قضايا شائكة بل حساسة كتلك التي قصدها ابتداء بالنقد والتفكيك، مثل: حقيقة حركة المرابطين وتأثيرها في البلاد والعباد على مختلف الصعد، والتعرب، وفتنة شرببه...في المقدمة خلص المؤلف إلى أن من دواعي تأليف الكتابة التاريخية التي ضغطت التاريخ الموريتاني إلى ثلاثة مراحل هي المرابطون وشرببه والاستعمار. والحق أن أصحاب هذا المنحى حاضرون، لكنهم لا يشكلون تيارا متجانسا بله مدرسة قائمة، لأن الحلقات التي التزموا التأريخ لها لا تعدو تحقيبا رديئا لا تؤسسه معرفة مكينة بتاريخ الإسلام والثقافة العربية وأصول الأقوام في موريتانيا و"الساحل". كما أن التجزر الثقافي الموريتاني ـأو هكذا أسميه ـ يقف سدا أمام تعميم الرؤى الكسيحة للثقافة والمجتمع كما تروجها أقلام المعنيين.
إن كتبة ذلك التحقيب الرديئ لا يستطيعون كتابة التاريخ لأنهم من ضحاياه، وليسو ـ في نهاية المطاف ـ أكثر من منتجين ـ بالدلالة التدوينية ـ لطروحات السيسيولوجيا الاستعمارية وغيرها من المعارف الانطباعية المبتسرة التي رستمها أقلام ضباط الاستعلامات الاستعماريين من أمثال (بول مارتي) وغيره من المتطفلين على تاريخ البلد.
والفرق بين المجموعتين في التزويقات المنهجية واللفظية لا أكثر. لكن يبدو أن المؤلف وقع في خطل "تحقيب" مناقض يؤسس لرؤية لا تخلو من الا تاريخية والنمطية.
كما وقع في خطل تحديد عرق الأقوام الأول قبل "صنهاجة" في المجال الموريتاني التقليدي. بينما أثبتت الأبحاث القبتاريخية استحالة تحديد نوع أولئك الاقوام لكنها أكدت أنهم ليسوو زنوجا على أي حال. ولا نلح هنا على فكرة إقصاء الزنوج من عدمها بقدرما نشدد على ضرورة التحري بشأن أولية السكان الأقدمين للبلاد.
ومن وجه آخر لم يستطع المؤلف التخلص من التصور الخطي للتاريخ، ولا من البحث في الأوليات، في الوقت الذي تم تجاوز هذه الطروحات من قبل الدراسات الانسانوية التي أضحت تشكك ـ جريا على سنن النظر الحفري ـ في إجرائية تلك المباحث. كما يفهم من النظر التاريخي لدى المؤلف ميل إلى الفهم الفلسفي للتاريخ، بينما أضحت فلسفة التاريخ في عداد الأموات على مستوى أوربا: مرجع صناعة التاريخ ولا أقول تفسيره.
في حديثه عن المرابطين "ينسف" وبجرة قلم دور حركة المرابطين في توحيد جل المغرب الاسلامي تحت راية المعتقد السني وفي ظل مذهب واحد بعينه. بعد أن قاموا بتصفية الجيوب البدعية والوثنية في مختلف بلاد السودان والصحراء والمغرب ووقفوا وبصلابة أمام الريكونكويستا الاسبانية [ حروب الاسترجاع المسيحية ].
كما انه يظلم المرابطين حين يمحو وببساطة جهدهم الثقافي بالاشارة ـ على نحو عابر ـ إلى جهل (كذا) يوسف بن تاشفين للغة العربية. متناسيا ـ في كل ذلك التبسيط ـ أن ما يسمى نهضة علمية في قرون تالية لهم لا يمكن أن يتم من فراغ. إذ كيف ينهض علم أو فقه دون إسلام متين وكيف تنمو بذور معرفة عربية في دار لا تقاليد إسلامية بها. إن الاسلام هو الذي عرب الناس ورغبهم في العربية ومكن لها في نفوسهم بالربط بينها والكتاب المنزل فالشريعة المنبثقة عنه. وقد لعب المسجد في سبيل ذلك من الأدوار الحاسمة المؤسسية ما لم تلعبه التقاليد الادارية بعد تعريبها على ما لها من دور محوري في ذلك لا ينكره دارس أو مهتم. ثم إن التاريخ المرابطي لم يكتب بل تم التعتيم عليه، وقد ذكر المؤلف ذلك، لكنه لم يفصح ـ كما هو شأنه مع "أعجمية" ابن تاشفين ـ عن أن هذا الأعجمي وأبناءه كانوا لا يسمحون بالخطابة على المنابر إلا لذوي العلم باللسان العربي غيرة على لغة القرآن و نشرا لها بين الناس ودفاعا عن الدين. وهي حقيقة لا يعلمها كثير من الناس و لا أخال المؤلف منهم.
وقبل المرابطين كانت "مدينة الذهب" أوداغست (في الحوض الغربي) عامرة بالعرب من مختلف الأمصار فضلا عن بربر المغرب، وكان سكانها من الكثرة بحيث لا يسمع الرجل جليسه في السوق، كما ان التعامل بالصكوك كان وقتها باللغة العربية حسب ابن حوقل في شهادة موثوقة ناصعة.
زد على ذلك إن العهد المرابطي لم يك خلوا من العربية والتعرب بل عرف أعلاما من الفقهاء مثل (لمتاد بن نفير) الذي ضرب المثل بفتياه في البلاد الصحراوية ولم تك بلسان قومه صنهاجة حسبما يفهم من طبقات عياض.
ولا ننسى معاصره الجوهر بن سكم وزملاءه الفقهاء الذين انتقدوا على ابن ياسين بعض سلوكه وأعماله وهو الذي وصل من الأندلس وقد ملأ وطابه علما بعدما تلقى عن الاندلسيين والفاسيين وغيرهم بل وظل يجاهد برغواطة من خلال رباط "دار الماربطين" في السوس بعد أن جاوز آماد الطلب.
ينضاف إلى ذلك و صول الحضرمي، ولا مجال للطعن في نسبه العربي لأنه من من مراد صليبة، إلى أزكي قاضيا للقضاة مع أبي بكر بن عمر. ولو لم يكن هذا العربي وجد محيطا للدرس والعلم باللسان العربي لما طاب له المقام بتلك الديار القصية النائية وهو القادم من أغمات المتردد على الاندلس؟
ومن وجه آخر لا يمكن الوثوق بالكثير من كلام الاخباريين الذين عاشوا في الحقبة الموحدية أو قريبا منها لسبب مفهوم هو التشيع لهؤلاء وبغض أولئك أو هذا بأجمعه.
وكان كلام المؤلف عن ابن ياسين في قمة التجني سيما حديثه عن تناقض أحكامه وجهله بالدين؟ وكونه زير نساء؟ والحق إن المؤلف لم يكلف نفسه عناء الالتفات إلى حقائق ما كان لها ان تغيب عن الأذهان. منها إطلالة البكري على صنهاجة الصحراء إطلالة تحكمها نظرته من برجه العاجي بوصفه ابن عز الدولة البكري أمير والبة وشلطيس في غرب الاندلس وما تؤسسه تلك البرجعاجية من احتقار لبدو الصحراء ومن جهل بحقائق إسلامهم المفارق جوهره التديني ولا أقول الديني لمماثله إسلام الاندلس المعلومة خصائصه.
ناهيك عن ان ابن ياسين كان درس بالاندلس علوما كثيرة ورابط في ثغورها، كما ان الأحكام التي انتقدها عليه البكري ليس فيها تناقض حسب الباحثين الذي قارنوها بفتاوي فقهاء المالكية التالين له مثل ابن رشد حول الأموال المغصوبة ووجه تجويز واحتضان حليتها بعد تطاول الأمد بها بين يدي أربابها الجدد وكان ابن ياسين ذهب نفس المسلك حين اقترح ما سماه: التطييب.
أما كلام البكري عن جهل ابن ياسين من خلال مثال تشنيعه بعض كلام القيروانيين مثل قول الرجل القيرواني أمامه: حاشا لله، فمؤداه كما فهم الباحثون اختلاف المصطلح لدى الأندلسيين عنه لدى غيرهم، حيث يحيل معنى الكلمة إلى دلالة قدحية لدى الاندلسيين. وقس على ذلك.
أما كون ابن ياسين كان "زير نساء" فهو من تشنيع البكري وتقدم بيانه كما ان المشهور عن الداعية انه كان يتزوج الأيامى صيانة لأعراضهن.
و لا يبعد عنا في هذا السياق ما وقع فيه دارسوا التاريخ ردحا طويلا من الزمن من خطل الإصفاق على اعتبار رباط المرابطين ثكنة أو مدرسة أو بناء محصنا في مكان بعينه جريا على سنن جملة مبتسرة لابن أبي زرع تابعه عليها ابن خلدون تتحدث عن رباط في البحر أو قريب منه في حديث لم يومئ إليه معاصروا الحركة ومن غير مناصريها مثل البكري ، بينما بتنا نعرف اليوم ـ بناء على دراسة مورياس فرياس و بعثة المعهد الاساسي لأفريقيا السوداء وآراء هويثي ميرندا ودارسين من العرب والمسلمين من الأكفاء مشارقة ومغاربة، إن الرباط كان نسبة لشعار الحركة وتقاليدها الجهادية التزاما بالأمر القرآني بالمرابطة جمعا للخيل [أو ما يقوم مقامها] وإعدادا لها والقتال صفوفا، وهو التقليد الحربي الجهادي الذي قلب به المسلمون تكتيك الحرب لدى بدو الصحراء يوم معركة بدر الغراء وكان له ما بعده.
وقد استطاع ابن ياسين تحقيق النصر بهذا التكتيك الجهادي على كل القوى الوثنية والبدعية التي واجهته لاسيما في معركة آدرار الخالدة التي يمر عليها الدارسون الغربيون عرضا أو يغفلونها ابتداءا. وفيها استشهد نصف جيش المرابطين في معركة غير متكافئة ضد النحلة الغامضة في تلك الجبال، ثم انتصروا عليها في يوم أغر من تاريخ الحركة بعد أن نذر المرابطون نفوسهم لله بتأثير من خطبة ابن ياسين التي ندبهم فيها للقتال حتى النصر وإلا لن تصلى لله ركعة في صحرائهم ما تعاقب الملوان فكان النصر ورفعت رايات التوحيد على جبل آدرار الذي صار جبل لمتونة كما يقول ابن عذاري.
وأما التأثير في البلاد الموريتانية، فكان الأولى بالمؤلف ان لا يغفل رؤية المؤرخين المعاصرين والتي تولي التاريخ طويل المدة دوره المحوري في صياغة البنيات في نحل الاجتماع ونمط العيش واختيارات الفكر بدل التركيز على التاريخ السياسي العسكري ذي الآنات السريعة السطحية. ذلك ان التراتبية الاجتماعية لا يمكن ردها إلى هجرة مجموعة بعينها كما لايمكن عزوها إلى إجراء كذلك الذي تذكره الرواية المحلية عن أبي بكر بن عمر المرابطي، لأن المؤسسة الاجتماعية أكثر تعقيدا وتشابكا ولأن بنيتها لا تتم بين عشية وضحاها كما ان المجتمع ـ أيا كان ـ يصنع تراتبيته بشكل "آلي" بغض النظر عن نوعها وتطورها المعقد في الزمان والمكان. ولا يستطيع دارس مهما كان رد التراتبية الاجتماعية في البلاد الموريتانية إلى قدوم بني حسان لأنها كانت قبل ذك بكثير بدليل وجود حملة السلاح بين التشكيلات الصنهاجية إلى جانب المتخصصين في شؤون الدرس والدين. وحتى إلى عهد بني حسان تفصح أكثر من رواية عن وجود التقاليد الزاوية بين بني حسان أنفسهم وهم في بلاد السوس؟ بل ويذكر ابن خلدون ظاهرة تشبه "التوبة" وتقليدا يشاكل "التزاويت" بين الهلاليين لا بل إنه يتحدث عن ظاهرة "الهجرة" الموجودة في اصطلاحنا نحن أهل بلاد الحوض. أما رد "النهضة" الثقافية إلى قدوم بني حسان فهو تبسيط أربأ بالاستاذ أحمدو عنه لما فيه من ميكانيكية وتبسيط مخلين بالمقاربة الجادة. نعم إن قرونا من "الفراغ" الوثائقي بعد المرابطين قد تزكي أوليا ما ذهب إليه المؤلف، لكن الربائد التي اكتشفت في آدرار معزوة للمجذوب بلغة لا تخفى حضرميتها [نسبة لحضرمي المرادي] و إشارات مصاحبة، تؤكد بقاء ذماء الحياة المعرفية المرابطية وتنبئ عن تقليد علمي عقدي وأصولي راق محته عوادي الزمن، ولما لانقول انه انتقل شرقا إلى حواضر الساحل في أزواد والنيجر تساوقا مع الزحزحة البطيئة والحاسمة من المسالك التجارية الغربية التي ازدهرت أيام المرابطين إلى المسلك الوسطى فالشرقية التي سطع نجمها منذ بداية القرن 7هـ.
إن من الوهم التسرع في البحث عن ثراء في المعطيات التاريخية على كامل النطاق الموريتاني في حقبة معينة، نظرا لأن مركز الثقل الاقتصادي فالفكري ليس ثابتا وحياة الناس "وتاريخهم" يتحول بتحوله. لقد ورثت المؤسسة الفقهية الصنهاجية في تنبكتو وولاتة وأكدز وغيرها من الحواضر "الساحلية" ذماء التقليد العلمي المرابطي القائم على تقاليد راسخة في الأمامة ومكانة مكينة للفقهاء ودور محوري للفقه المالكي متونا وتقاليد، فضلا عن إسلام سني مالكي شكل البنية الاشعورية ـ بتعبيرنا اليوم ـ للثقافة الموريتانية، في جملة تعيينات وتقاليد ستظل تحكم المجتمع والثقافة على مر الأيام وتمدهما بعناصر تأسيسية للمشروعية الثقافية والاجتماعية والنظرة للحياة يل للوجود. ولا يفوتني التشديد على وجود مائات متون الفقه التي نسخت بالصحراء أو تداولت فيها وانتقلت نحو الشمال حيث لا تزال مودعة في الخزائن المغاربية.
وإذا ولينا وجوهنا شطر المغرب وسهوله المعشبة وحواضره الزاهرة فنحن ملاقوا الدور الثقافي والحضاري المرابطي جليا واضحا. ذلك انه يخطئ من يعتقد ان المدارس والمساجد والأوقاف التي وجدت في تلك العهود أو نمت في ظلها كانت منبتة الصلة بالمظلة المرابطية والخطاب السياسي المرابطي. وهو ما ناقشه باستفاضة أكثر من باحث مثل د. عبد الهادي التازي في أطروحته الشهيرة عن الرويين المسجد والجامعة.
ومن وجه آخر لا يصمد حديث المؤلف عن التعرب أمام أبسط الاستقراءات التاريخية. إذ ان العربية كانت تتحدث في ولاتة وقبل وصول بواكير الهجرة المعقلية بكثير، كما ان أخبار ودور الجاليات العربية المبكرة في المدن الصحراوية لا تزال غير واضحة لدينا تماما. ثم ان المقاربات المختصة بدأت تميل إلى ان التعرب كان بفعل تطور الاقتصاد الصحراوي من اقتصادي شفاهي موكول إلى نزاهة الشهود وطول أعمارهم إلى اقتصاد كتابي قوامه الشهادة الموثقة كتابيا وفق الضوابط المعتبرة شرعا. وبذلك كان انتشار الاسلام ثورة في استخدام اللغة العربية في المعاملات التجارية التي تعقدت لاسيما مع تبادل المواد النفيسة والمواد الضرورية وبكميات ضخمة مما زاد من أعداد الجمال في القوافل وزاد من عدد رجالها أدلاء ومساعدين ومشتركين في ملكية الحمولة أو الجمال أو ذلك جميعه. ولا ننسى أن العامل الأساس في زوال لغة أو انحطاطها عبر تاريخ الأمم كان ارتباطها بلغة الإدارة أي باللغة الرسمية.
ولم يقل أحد إن بني حسان امتلكوا جهازا إداريا بعينه أو فرضوا نوعا من التعامل بلغتهم على الناس. ولكن ذلك لا ينفى دور بني حسان في تعميق التعرب الشعبي لا سيما في غرب البلاد: في الكبلة وأحوازها التي كانت المعقل الأخير للثنائية اللغوية لأسباب معلومة أما شرقي البلاد وشمالها وغيرها من الأحواز التي كانت المجال التقليدي للقوافل والمدن القافلية، فقد انتفت منها ابتداء تلك الازدواجية وترسخت اللغة العربية بين سكانها. ناهيك عن ان اللغة المضرية الدارجة كانت قد تغلغلت إلى الشمال الإفريقي وغربه بكثير قبل أن تسمى إحدى فروعها بالحسانية، تشهد على ذلك ملاحظة أبداها الصوفي الأجل زروق الفاسي وشواهد أخرى خلدونية. ثم ان التعرب سبق إلى البلاد الافريقية والمغربية قبل قدوم الهجرة الهلالية بوقت طويل ولن تكون البلاد الموريتانية بدعا من ذلك وهي التي تطالها القوافل الغادية والرائحة على مدار العام قادمة من تلك الأصقاع. هذا فضلا عن أنه وصل إلى المغرب الكبير من الهلاليين مئات الألوف من عرب هلال وغيرهم، ومع ذلك لم يتعرب كل تلك البلاد ومثال القبائل شاخص للعيان. فكيف ينسب تعريب كلي للبلاد الموريتانية إلى بني حسان وقد وصلوا مع الهلاليين في مجموعة لا تتجاوز المائتين. ثم إن فصل الحسانيين الخلص عن الزناتيين الذين "تحسنوا" أو "تمعقلوا"، قبل ذلك، بانتحال الأنساب ونحلة العيش والزي والشعار وغيرها من الصيغ التي بالغ ابن خلدون في وصفها، لا يزال يحتاج تفسيرا مقنعا؟
وفيما يتعلق بتقسيمه البلاد إلى وجه بحري "قبلي" وآخر صعيدي (كذا؟) فهو استمرار لمصرنة المفاهيم وتعلق بها فيما يبدو. كما انه تقسيم لا يخلو من نمطية وعنف وتعميم سيما وما ارتبط به من "درجة" انفتاح و"وعي" كذا .. ذلك أن بلاد الحوض وأحوازها من الشرق الموريتاني وهي قلب حضارة البيضان بإجماع، لم تعرف على مر تاريخها الانكفاء على الذات بل كانت منفتحة على العالم انفتاحا حقيقيا متوازنا منسجما عبر تجارة القوافل خلال قرون متطاولة بشهادة الإخباريين الأقدمين والدارسين المعاصرين. بينما كانت بلاد الكبلة معزولة قبل القرن التاسع عشر الذي جرى فيه التغلغل البضاعي الأوربي في الدواخل، ولم تعرف قبل ذلك الحركة التجارية القافلية الفعلية بل ان عالما من أعلام شرقي البلاد هو الشيخ سيد محمد الكنتي ت1241هـ يجزم أن زوايا المغرب الأقصى [القبلة] لم تكن لهم عناية بالسفر ولا بالمكيلة"؟ فضلا عن أن أقطاب العلماء في شرقي البلاد وشماليها مثل ابن الهاشم الغلاوي وابن الأعمش العلوي وغيرهما، كانوا يعتبرون بلاد الكبلة من منتهى الإسلام؟ أي أنها تقع في نطاق طرفي بالنسبة لإسلام المركز الواقع في مدن مثل ولاتة وشنجيط.
ويبلغ التبسيط درجته القصوى عند المؤلف الكريم في تحديد تاريخ حدود بداية النهضة الثقافية؟ والحق انه يتناسى ان هذه النهضة لا يمكن ان تكون نتاج سلطان مهما قويت شوكته وعم سيبه ونواله بل هي كماتدل الشواهد نتاج جهود المجتمع الأهلي الذي نمى على أساس من ذماء التأسيس المرابطي وتطور في المدن التي أنشأها صنهاجة وازدهرت معارف سكانه بالارتباط بالحج عبر القوافل التي كان يسرها المسوفيون الذي كانوا سادة التجارة عبر الصحراء دلالة وتسييرات وحماية في العهد المالي والسونغاوي بل وشطرا مما نسميه "تجوزا" العصر الحساني. ولا يعني كل هذا التعليق نفي أهمية حضور بني حسان. ذلك ان الحركة الحسانية ـ حسب اعتقادي ـ كانت ذات دور محوري في تجديد بعض ملامح الحياة الصحراوية وترميم بعض مناحيها الأخرى. فقد وحد بنو حسان البلاد تحت لغة واحدة ـ بالتساوق مع العوامل التي تسارع فعلها السيسيو لغوي في عهدهم ـ ونشروا تقاليد في الزي والزينة والعلائق الاجتماعية وحدت مجال بلاد البيضان نهائيا. كما أنهم وفروا السند الفعلي للمراكز العلمية الزاوية التي كان بعضهم من كبار رموزها فعليا. وبالرغم من أن إسلام المحاربين من بني حسان كان غير عميق، فإن القوى الحسانية ظلت تلتزم الاسلام السني وتعلن عن تعلق بالشرعية الدينية على مر الأزمان، وتوقر أهل الجاه الديني وتحمى قوافل زوايا المدن وتردع ـأحياناـ المنتهكين لحرمة العلماء والصلحاء. ثم إن النظر التاريخي المنسجم لا يفتش عن درجة إسلام القوم وتمكنها بل يميز بين نمط العلاقة مع المرجعية الدينية: حسان مسلمون يبحثون عن الشرعية الدينية، والزوايا مسلمون يمتلكون "سلطة" التأويل. لقد حقق المرابطون الصنهاجيون من بعدهم الثقافة العربية الاسلامية النخبوية أما بنو حسان فقد وحدوا الثقافة الشعبية، ومن المهيعين انصبت جداول ما نسميه دوما نهضة أو ما شابه. ثم انني بناء على تحريات عقد من الزمن من التنقيب في الأرشيفات العربية توصلت إلى ان روافد تلك النهضة كانت عربية بالأساس ولم تكن راجعة إلى جهد مرابطي أو حساني.
فالمذهب المالكي لم تزدهر متونه إلا مع اتصال التنبكتيين والولاتيين بالمشرق عبر ركاب الحاج والرحلات العلمية في ظل مملكتي مالي والسونغاي والحال نفسه ينسحب على الحركة الفكرية في عموم البلاد بعد ذلك. ولم تنهض الحركة الفكرية بفعل تعرب ديني مرابطي ولا تعرب شعبي حساني لكن كان لكلا المنزعين دوره في ذلك.
و يحضرني، بعد نظر خاطف على الكتاب بعد تدوين معظم المقال، ملاحظات على أراء وتركيبات دبجها المؤلف منها:
ـ تذكيره الدائم في الهوامش والمتن بالارتباط بين الغظفية والشيخ محمد الأغظف الداودي وهو حق لامراء فيه ولكن الحديث عنه في سياق ارتباط بعض المجاهدين ضد الاستعمار بالغظفية "الداوودية" فيه تمحل أربأ بالمؤلف عنه سيما والمعروف ان الفرع الغظفي الذي استمر كان الفرع البصادي ذي الاتجاهين:
اتجاه الطالب بن خليل والمحفوظ بن بيه وغيرهما واستمر شاذليا صرفا،
واتجاه اولاد بوياحم البصاديون وكان الأشهر والأقوى لكن خالط عوامه شطح شنع بسببه الفقهاء وشددوا النكير على الغظفية "البصادية".
من هنا فذلك التذكير الزائد عن الحاجة يشعر بسعي لطمس المدرسة البصادية وفروعها المسومية والشمسدية والتنواجيوية وغيرها من الفروع.
ـ انزلاقات "ايديولوجية" في حديثه عن العجمة والتعرب والعروبة والمنحى القومي وغيرها من الطروحات. والحق أن التاريخ الموريتاني مثل غيره من التواريخ تفعل فيه العوامل الاقتصادية والاجتماعية فعلها بالتساوق مع إكراهات المحيط لكنه كغيره من فصول تاريخ دار الاسلام محكوم فعليا بتأثير الإسلام على حياة الناس بمختلف صورها، كما تعتوره مراحل الانتقال من المحلي إلى الإقليمي فالكوني مع الأحداث المدوية الكبرى كما هو شأنه بعد الفتح ثم الحركة المرابطية.
ولا يمكنني التعليق على أفكار المؤلف بشأن شرببه والمقاومة لأنني لم أفهم ما يقصده ببعض الملاحظات للاختزال الشديد الذي صيغت به من قبل ملخص العمل، فضلا عن انني لا زلت اعتبر، مع آخرين، شرببه حربا محدودة في الزمان والمكان، ومشهدا في الثقافة والسياسية غير متجانس لا يمكن فهمه إلا برده جانبه الثقافي إلى صراع بين الفقهاء وأحد تجليات الحركة المهدوية القادمة من جنوب المغرب، وجانبه السياسي إلى أزمة بدأت نذرها في مناطق الساحل الافريقية بفعل التغلغل البضاعي الأوربي. ولذلك لم تعرف بلاد الشرق الموريتاني ولا الشمال أي تأثير لفتنة شرببة ولا تداعياتها. بل ان من سكان تلك الجهات من لم يسمع بتلك الحر ولهذا ب أصلا.
والحال نفسه بشأن المقاومة، إذا التاريخ للاستعمار ليس لي باختصاص كما انني لا أخفي رأيا متواضعا بشأن عواقب الانفتاح الذي نبه عليه المؤلف لدى سكان ما سماه الوجه البحري، وهو انه ليس جبلة أو وعيا تراكميا بل نتاج عهد قريب زمنيا يعود إلى ارتباط البلاد بمستعمرات النهر ثم بالنخب القادمة من هناك في ظل الدولة الوطنية بينما انكفأت البلاد الشرقية على نفسها بعد قرون من الحيوية الفكرية والاقتصادية والسياسية.
الموضوع حديث آخر إنشاء الله.
تعليقات
إرسال تعليق